الخميس، 14 يونيو 2012

{ الفراشات } كن للود حافظاً

بسم الله الرحمن الرحيم


كُنْ لِلْوُدِّ حَافِظا

كتبها أ . د / عبد الرحمن البر


الحمدُ للهِ الذي نِعمُه لا تُحْصَى ، وشكرُه لا يُؤَدَّى ، وليِّ النَّعَم كلَّها دون مَنْ سواه ، ولا عِصمة إلا لمن هداه ، ولا نجاةَ إلا لمن عَصَمه من اتباع هواه ، وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمدٍ عبدِه الذي ارتضاه ، ورسولهِ الذي اختاره واصطفاه ، وخصَّه بِخَتْم النبوَّة وحَبَاه ، وأَبَانَه بأعلى منازلِ الفضلِ على كل آدميٍّ سواه ، وعلى آلِه وصحبِه الطيبين الهُداة




وبعد أيها الكرامُ السادة ، فقد غاب صديقي النَّبيهُ عن مجلسنا على غير العادة ، فقلت : أذهبُ الليلةَ إليه ، فأسأل عنه وأطمِئنُّ عليه،  فأتيتُه في المساء ، بعد أن أدَّيْنا صلاةَ العشاء ، فرأيتُه وهو مكتئبٌ حزين ، كاسفُ البال مُقَّطَبُ الجبين
فقلتُ : أَيَا صاحبي ! ما الذي دهاك ؟ وعن مجلس الأصحابِ والأحبابِ صرفك وزَوَاك ؟
قال : ليس لي أصحابٌ ولا أحباء ، وحقٌّ ما قال بعضُ البلغاء

ما ودَّك مَنْ أهمل وُدَّك --- ولا أحبَّك مَنْ أبغضَ حبَّك

وقد قيل : عِلَّةُ المعاداة، تكون في قِلَّة المبالاة

وكلُّ أخٍ عند الهُوَيْنَى مُلاطِفٌ --- ولكنَّما الإخوانُ عند الشدائ
د



قلت : هذا كلامٌ خطير، فما الذي أدَّى لكل هذا التغيير؟
قال : أَوَمَا سمعتَ قبل يومين أخانا عدنان ، حين ساءني واستهزأ بي بين الإخوان ؟ وليست هذه المرةَ الأولى ، فله في السخريةِ مني يدٌ طولَي ، وكم حدَّثتُ نفسي بالصبر على هذا الفعل ، ولكني قد فاض بي الكَيْل ، ومع أنى أردُّ عن كلَّ إخواني السُّخفَ والجَهْل ، فلم أجدْ من أحدٍ منهم الردَّ والوفاء ، فتيقَّنتُ ما قال بعض الشعراء

ما كِدْتُ أفحصُ عن أخي ثقةٍ --- حتى ذَممْتُ عواقبَ الفحصِ
قُل للذين صَحِبْناهم فلم نَرَهُمْ --- يَرْضَوْن لمن صحبوا بغير الدُّونِ
سلامةُ الدين والدنيا فراقُكم --- وفراقُكم راحةُ الدنيا والدي



ولهذا فقد قررتُ تركَ مجالس الإخوان ، والانفرادَ بنفسي عن أبناء الزمان
قلت : أخطأتَ يابنَ الكرام ، وجانبْتَ الصوابَ في الفعل وفي الكلام ، فقد قال الحكيمُ ونعم ما قال : الرجلُ بلا صديق كاليمين بلا شمال

وكنتُ إذا الصديقُ أراد غيْظِي --- وأَشْرَقَنِي على حَنَقٍ بريقي
صفحْتُ ذنوبَه وعفوْتُ عنه --- مخافةَ أن أعيشَ بلا صديقِ



إن الأخ يا صديقي إنسانٌ هو أنت إلا أنه غيرُك ، فلا تكن في شكًّ من الإخوان ولا يلتبسْ عليك أمرُك ، ولعمري إن إخوانَ الصدق لمن أنفَس الذخائر، وأفضل العُدَد للزمان أيها الذكيُّ الماهر، وقد جاء في معنى الحديث الشريف ، أيها الصديقُ النبيهُ اللطيف

للهِ في الأرضِ أجنادٌ مُجَنَّدةٌ --- أرواحُها بينها بالصدقِ تعترفُ
فما تناكر منها فهو مختلفٌ --- وما تعارف منها فهو مؤتلفُ



وفي الحكمة قيل ، أيها الصديقُ النبيل : مَنْ استصلح عدوَّه زاد في عُددَه، ومن استفسد صديقَه نقص من عُدَدِه ، أوَ ما دَرَيْتَ أنَّ مَنْ قطع الإخوانَ دفعهم ليقطعو ه، ومَنْ ضيَّعهم كان أحَرْى أن يُضَيِّعوه ، وعزَّ عليه أن يُعوِّضَهم وسهُل عليهم أن يُعوِّضوه

يمضي أخوك فلا تلقَى له خلَفاً --- والمالُ بعد ذهابِ المالِ مُكْتَسَبُ

والأخ بين إخوانه يا زيْنَ الأصدقاء ، كالسمكِ السابحِ في لطيف الماء ، فإن غادره ضاق به واسعُ الفضاء



قال صديقي فَرَّج اللهُ عنه الضيق : لكنني يا شيخَنا قد صاحبتُ أكثرَ من صديق ، فما رأيتُ أكثرهم غَفَر لي ذنبا ، ولا ستَر لي عَيْبا، ولا حفظ لي غَيْبا ، ولا أقال لي عَثْرة ، ولا بذل لي نُصْرة ، لقد خَبُثَتْ من القوم السرائر، وخالفتْ في غالب الأحوال الظواهر، حتى فَنِيَ يا شيخَنا ميراثُ النبوَّة ، وفُقِدتْ من الناس المروءةُ والفُتُوّة

صديقُك لا يُثْنِي عليك بطائلٍ --- فماذا ترى فيك العدوُّ يقول



قلت : اسمع أيها الصديقُ الطيبُ الزَّيْن ، لا تزهد في صديقِك لِخُلُقٍ تنكره أو خلُقيْن ، طالما رضيتَ من أخلاقِه الكثير ، فإن اليسيرَ من الأخطاء مغفور ، والذنبَ في خِضَمَّ الحسنات مغمور

لا يُؤْيِسَنَّك من صديقٍ نبوةٌ --- يَنْبُو الفتى وهو الجَواد الخِضْرِمُ
فإذا نَبَا فاسْتَبِقِه وتَأَنَّه --- حتى تفيءَ به وطبعُك أكرمُ


فلا يزهدنَّك في صديقٍ حمدتَ سيرتَه ، وارتضيت وتيرته ، وعرفت أدبَه وفضلَه ، وخَبَرْتَ عقلَه ونُبْلَه ، عيبٌ تحيط به كثرةُ فضائِلِه، أو ذنبٌ صغيرٌ تستغفر له قوةُ وسائله ، فإنك لن تجد أبداً ما بقيتَ مُهَذَّباً لا يكون فيه عَيْب ، أو معصوماً محفوظاً لا يقع منه ذنب

أتطلبُ صاحباً لا عيبَ فيه --- وأيُّ الناس مَنْ ليس له عُيوبُ



إنَّ من حق الإخوان أن تغفرَ زَلَّتهم ، وأن تسترَ يا صديقي هفوتَهم ، لأنَّ مَنْ رام بريئاً من الزلات ، وطلب سليماً من الهفوات ، رام أمراً مُعْوِزاً ، واقترح وصفاً معجزا ، فلا صديقَ بلا هَفْوة ، ولا جوادَ بلا كَبْوة ، ولا صارمَ بلا نَبْوة

ومَنْ ذا الذي تُرضِي سجاياه كلُّها ---- كفى المرءَ نُبْلاً أن تُعَدّ معايِبُه
إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ مُعاتِباً --- صديقَك لم تلقَ الذي لا تعاتِبُه
فعِشْ واحداً أوْ صِلْ أخاك --- فإنه مقارفُ ذنبٍ مرةً ومجانِبُه



قال صديقي أتَّم الله سعادتَه : فإني أرى نفسي لا تنسى مساءَته ، وإن كانت لا تضمر أبداً عداوتَه، فكيف أُرْضيها وأصفِّيها ، ومن الضيق أخلِّصُها و أنقِّيها ؟
قلت : سامحك الله! أَوَمَا قرأتَ قولَ الله : ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَي الله﴾؟ ألم تقرأ قول الحق الواضح الأبين: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
 
وكُنْ معدناً للخيرِ واصفَحْ عن الأذى --- فإنك راءٍ ما علمتَ وسامعُ
وأحبِبْ إذا أحببْتَ حبّاً مقارباً --- فإنك لا تدري متى أنت نازِعُ
وأبغِضْ إذا أبغضتَ غير مُبايِنٍ --- فإنك لا تدرِي متى أنت راجِعُ



وفي الحديث يابنَ الكرام ، عن بدرِ التمامِ ومِسْكِ الختامِ وزَيْنِ الأنام : لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ
استُرْ أخاك وغَطِّ على عيوبِه ، واعلم بأن الحِلْمَ عند الغيظِ أحسنُ من ركوبِه
وفي معنى هذا الحديث الشريف يا قرةَ العَيْن : تُعْرَض الأعمالُ كلَّ يومِ خميسٍ واثنين ، فيُغفرَ للمسلمين جميعاً إلا رجلين ، كانت بين أحدهما وبين الآخر شَحْناء ، فيقال : أخِّروا هذين حتى يصطلحا وتذهبَ البغضاء

لكلِّ شيءٍ فقدتَه عِوَضٌ --- وما لِفَقْدِ الصديق من عِوَض

واسمع أيها الحبيبُ الألمعي ، ما قاله إمامُنا الشافعي

أحبُّ من الإخوانِ كلَّ مُوَاتي --- وكلَّ غضِيض الطرفِ عن عثراتي
يُطاوِعُني في كل خيرٍ أريدُه --- ويحفظُني حياً وبعد وفاتي
فمَنْ لي بهذا؟ ليتَ أنَي أصبتُه --- فقاسمتُه ما لي من الحسنات
تصفحتُ إخواني فكان أقلَّهم --- على كثرةِ الإخوانِ أهلُ ثقاتي





وفي ختام الكلام يا أصيلُ يا ابنَ الأصيل ، اسمع إلى ما يقول المولى الجليل : ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ . قال الإمام علي رضي الله عنه يا أولي الألباب : الصفحُ الجميلُ هو الرضا بغير عتاب

هَبْني أسأتُ كما زعمتَ--- فأين عاطفةُ الأخُوَّة
أو إن أسأتُ كما أسأتَ --- فأين فضلُك والمُرُوَّة


قال صديقي الطيبُ الأمين : شفيتَني شفاك اللهُ ربُّ العالمين ، وجزاك عني خيرا يا زينَ الناصحين ، وأما أخي عدنان ، فقد عفوتُ عنه ما كان ، وأنا عائدٌ بإذنِ ربي إلى مجالس الإخوان ، وعائذٌ بالله ربي من نَزْغِ الشيطان ، وسائلٌ إلهي أن يجمعني مع إخواني في الدنيا على الإيمان ، وفي الآخرة إخواناً على سُرُر الجنان
وفي الختام أزكى صلاتِنا وأتَمُّ السلام ، على البدرِ المنيرِ في الظلمات ، سيدِنا محمدٍ سيدِ الكائنات ، وعلى الآلِ والصحبِ والزوجات ، والحمدُ لربِّي قاضي الحاجات ، ومُذْهِبِ الأضغانِ والعداوات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق